لأننا نحترم عقولكم
بدر السلام الطرابلسي
تتحدد وظيفة الإنترنت في انجاز مهام تواصلية واتصالية بين الأفراد لغايات مهنية أو اقتصادية أو سياسية أو ترفيهية، لكن أخطر مهمة أنجزتها الإنترنت – منصّات التواصل الاجتماعي تحديدا – في تونس هي لعب دور الوسيط الميديائي الأخطر لبرامج الاتصال والتسويق السياسي للحكومات والأحزاب والفاعلين على تعدد خلفياتهم وايديولوجياتهم، بحيث تحولت إلى منبر رئيسي للاستقطاب السياسي في الانتخابات والاستفتاءات ومختلف المحطات السياسية التي مرت بها البلاد خلال مسار الانتقال الديمقراطي.
وقد لاحظنا بعد ثورة 14-17 كيف تصاعدت وتيرة الاستقطاب السياسي على صفحات ومجموعات فايسبوكية وعلى منصة تويتر تتبع للأحزاب والتيارات السياسية اليمينية والشعبوية واليسارية خلال المحطات الانتخابية 2011 و2014 و2019 وخلال إعداد الدستور في 2013.
كما شهدت الساحة السياسية في تونس، بعد الانقلاب الدستوري الذي قام به الرئيس قيس سعيد في 25 يوليو / جويلية، ارتفاع حدة الاستقطاب المجتمعي بين أنصار الرئيس قيس سعيد داخل الحملة التفسيرية (تصور شعبوي خاص للديمقراطية) من جهة وأنصار المعارضة الراديكالية التي كانت موجودة في السلطة والبرلمان من جهة أخرى (الأحزاب والتيارات الموجودة في أقصى اليمين واليسار).
ويمكن اعتبار أن مسار الانتخابات الرئاسية التي عرفتها البلاد خلال الأشهر القليلة التي سبقت هذا الاستحقاق، ومحتوى الخطاب السياسي السلطوي الذي رافق هذا المسار، يجسدان ذروة الاستقطاب السياسي القصووي والاقصائي، وذلك باستخدام مفردات وعبارات تنفي الآخر وتقصيه تماما من فضاء التنافس السياسي الديمقراطي من ذلك استخدام “عملاء للخارج” “خيانة الوطن” “تآمر على أمن الدولة” “مرض سرطاني” إلى آخره من المفردات التي تنتمي للقاموس الأمني والحربي لا للقاموس السياسي الديمقراطي.
فإلى أي مدى تؤثر محركات البحث والميديا الاجتماعية في نسق الاستقطاب السياسي بين أنصار التيارات الشعبوية واليمينية واليسارية الراديكالية؟ وكيف يساهم التضليل الاعلامي وتعويم الحقائق في صناعة المواقف السياسية الأكثر وثوقية وتطرفا؟
الاستقطاب في شرك المنصات
تعتبر محركات البحث والميديا الاجتماعية التي تأسست في فترات زمنية متقاربة نذكر من بينها غوغل (1998) يوتيوب (2005) فايسبوك (2004) تويتر (2006) من بين أهم العوامل التي ساهمت في ارتفاع وتيرة الاستقطاب السياسي على الإنترنت بعد أن كان يحدث في فضاءات الوسائط الميديائية التقليدية (صحف، إذاعات، تلفزيونات…) وداخل الساحات العامة والمقرات الحزبية والمنتديات السياسية إلخ. إلا أن الاستقطاب السياسي في العشريتين الأخيرتين، أي بعد ظهور محركات البحث والميديا الاجتماعية، انتقل إلى الفضاء الالكتروني الافتراضي، حاملا معه مسلمة رئيسية في النقاش وهي تلك التي أثبتتها العديد من الأبحاث والدراسات التي أجريت على ظاهرة الاستقطاب السياسي، والتي خلصت إلى أن الأفراد يميلون دائماً لمناقشة القضايا السياسية والشؤون العامة مع الآخرين الذين لديهم نفس العقلية ونفس التوجهات الفکرية. وبأن أکثر التفاعلات تکراراً في الشبکات الاجتماعية تحدث مع الشرکاء والمستخدمين الأکثر انسجاماً وتشابها في المناقشات والمواقف السياسية 1. وهي التقنية التي راهنت عليها كثيرا مواقع التواصل ومحركات البحث عموما لجذب أكبر عدد ممكن من المستخدمين للأنترنت من أجل تحويلهم لاحقا لبضاعة لزبائن هذه المحركات والمواقع من شركات تجارية ومستشهرين شتى، مما يعني أن الغرض منذ البداية كان تجاريا.
و تعمل الخواريزميات والروبوتات التي تضعها هذه المواقع من أجل خلق حركة من البيانات والمعلومات المتشابهة والمتقاطعة حول حسابات الأشخاص المتقاربين سياسيا وفكريا مما يجعلهم يتداولون المسائل المطروحة في الفضاءات العامة بشكل أحادي لوجود ميل طبيعي لدى الأفراد للنقاش مع من يشبههم في الأفكار والرؤى، وهو ما يدفعهم، عند مناقشة القضايا السياسية، لمعالجة المعلومات المتداولة بانتقائية وتحيز شديدين ، مما يزيد من حدة الاستقطاب السياسي والتطرف في الآراء، والتباعد بين المجموعات المتناقشة والانفصال فيما بينها.
وتسمى هذه الظاهرة بغرفة الصدى Echo Chamber حيث أن الاستقطاب السياسي خلالها يتسم بنقاء ووضوح كبيرين بسبب استقبال المستخدمين للأنترنت للآراء ومواقف تتقاطع وتسند وجهات نظرهم وتستبعد وجهات النظر الأخرى المخالفة أو المعارضة لتوجهاتهم الشخصية والجماعية، وهو ما يدفع المستخدمين للتطرف في آرائهم التي يحملونها بخصوص قضية معينة ويعمقون العزلة السياسية بينهم وبين المختلفين عنهم في الانتماءات والرؤى السياسية والايديولوجية. ونتيجة لهذا الاستقطاب تتسع دائرة ذوي الآراء السياسية المتطرفة وفي المقابل يتلاشى ذو الآراء السياسية المعتدلة.
وأوضحت دراسات أن جوجل وفيس بوك وغيرها من مواقع التواصل الاجتماعي تعمل على ترسيخ البحث عن المعلومات التي تتفق مع وجهة نظرنا من خلال الخوارزميات التي تقترح علينا المزيد من هذا المحتوى، مؤكدة أن خطورة هذه الخوارزميات تكمن في أن مستخدميها ليسوا على علم بها، فتعمل فقاعات الترشيح على حجب التفاعل بين الأحزاب مما يجعل كل طرف منحاز بشدة لأفكاره2.
وذكرت الدراسة التي أجراها السوسيولوجي الأمريكي Chris Bail من خلال إجراء مقابلات شخصية معمقة مع عينة من مستخدمي الميديا الاجتماعية من الحزبين الجمهوري والديمقراطي، إلى جانب متابعة حساباتهم الشخصية على “تويتر”، إلى أن موشور منصات التواصل الاجتماعي Social Media Prism يعمل على دعم المتطرفين الساعين للحصول على مكانة اجتماعية، في حين يخرس المعتدلين الذين لا يرون أن هنالك جدوى من مناقشة السياسة على وسائل التواصل الاجتماعي، ويترك شكوكاً دائمة بين الأطراف المتعارضة3.
هنالك مثال بارز على ذلك في الساحة السياسية والاتصالية والميديائية التونسية، فقد اشتد الاستقطاب السياسي إثر “الانقلاب الدستوري” الذي قام به الرئيس التونسي قيس سعيد في 25 جويلية اعتمادا على تأويل خاص للفصل 80 من الدستور (تعليق عمل البرلمان وحله لاحقا، حلّ الحكومة، اصدار مراسيم تشريعية وحل الهيئات الدستورية…).
وقد بدأ الاستقطاب بين أنصار قيس سعيد من داعمي مسار 25 جويلية (الحملة التفسيرية) وجزء من المعارضة القومية واليسارية (التيار الشعبي، حركة الشعب، الوطنيون الديمقراطيون) الذي اختاروا الانضمام للجموع المساندة للرئيس.
وانطلق الاستقطاب من الصحافة والميديا التقليدية الموالية أو المعارضة للرئيس لينتقل لمواقع التواصل الاجتماعي، خاصة فايسبوك، حيث توجد مجموعات موالية للرئيس تناقش قراراته وتصريحاته وتعيد انتاج مواقفه بطريقه وثوقية ودغمائية بعيدا عن النقاش الديمقراطي العقلاني. وهنا تتغذى هذه المجموعات على عداء بعضها البعض وتداول المعلومات المساندة لمواقفها حتى وإن كانت مغلوطة مضللة.
تأجيج الاستقطاب المتطرف
يتغذى الاستقطاب السياسي من عدة مصادر بعضها ايديولوجي سياسي (الشعبوية، اليمين المتطرف…) وبعضها الآخر من طريقة تناول الاعلام التقليدي للقضايا التي تصنع الرأي العام (Framing Theorie)، وفي بعض الأحيان عن طريق نوازع حسية غرائزية من داخل ذواتات مستخدمي الانترنات (الحقد). الخطير في مسألة تأجيج الاستقطاب حينما تتقاطع أو تجتمع مختلف مصادر تغذية الاستقطاب Fueling Polarization Feed مع بعض لتصنع غرف الصدى، التي لا تحتمل إلا رأيا واحد معمما قابلا للمزايدة والتطرف لا الاعتدال والانفتاح على وجهات النظر الأخرى في مسائل انتخابية أو سياسية أو أحيانا حضارية وهوّياتية.
الاستقطاب تغذيه الشعبوية Populisme بما أنها سردية سياسية لا عقلانية في مناهجها ورؤيتها للشأن العام وتعتمد على المنطوق الشفوي والرموز والشعارات التي تطلقها الجموع الشعبية بخصوص قضية ما سياسية أو اجتماعية أو ثقافية أو اقتصادية، ودائما ما تكون رؤيتها حدّية غير قابلة للنقاش النقدي بمنطق مع أو ض.
والشعبوية اصطلاحا هي اتجاه سياسي معاصر ظهر خصوصا في العقدين الأخيرين مع وصول الرئيس الأمريكي دونالد ترامب للحكم سنة 2017 ونجاح حركة خمسة نجوم الايطالية في انتخابات سنة 2018 وتكوين حكومة ائتلافية وفوز الرئيس قيس سعيد في تونس في الانتخابات الرئاسية لسنة 2019، وغيرهم كثيرون عبر العالم سواء في أوروبا أو أمريكا اللاتينية…إلخ.
وتتبنى الشعبوية أفكارا سياسية ظهرت قبل الديمقراطية التمثيلية والتداولية من قبيل الديمقراطية المباشرة وتمثيلية المجالس المحلية والتخطاب مع الشعب دون وسائط سواء من الأحزاب أو البرلمانات أو المنظمات أو النقابات أو الميديا التقليدية. والمعروف عليها أنها تضع على رأس أجندتها معاداة النخب والمنظومة السياسية القائمة بشكل عام يقودها في ذلك الفكر التآمري conspirationniste، وهي بذلك تضع “الشعب” في مواجهة نخبه السياسية والثقافية والاقتصادية للبلاد4.
من المغذيات الأخرى للاستقطاب نجد طريقة التناول الاعلامي أو الاتصالي لقضايا معينة من زاوية مع أو ضد Framing Theorie ، دون إعطاء المجال لموقف ثالث موضوعي ومحايد ليأخذ حقه في النقاش العام مثلما حصل مثلا في قضية الإيقافات الأخيرة للسياسيين المعارضين للرئيس قيس سعيد بتهم تتعلق بالتآمر على أمن الدولة وتكوين وفاق إرهابي للإضرار بمصالح البلاد .
المشاعر السياسية
تنتشر موجة الحقد الاجتماعي والسياسي وغير من أصناف المشاعر السياسية بفعل التأثّر “بالجوّ العام” ونتيجة لما أسماه علماء سيكولوجية الحشود “العدوى الجماعية”، حيث تنساق العامّة وراء تيّارات جارفة من التحريض دون تفكير في مدى تلاؤمها مع الحقّ5. هو ما حصل مثلا في حملات التحريض التي قادها أنصار سعيد ضد زعماء المعارضة والصحافيين الذين أودعوا السجن باتهامات تتعلق بـ”الخيانة” و”والتآمر على أمن الدولة” و”الثلب” ونشر “معلومات مغلوطة” و”الاضرار بالأمن العام” بناء على المرسوم 54 ، وغيرها من التهم التي لم يتم اثباتها قانونيا وقضائيا حسب شهادات المحامين وبيانات المنظمات الحقوقية، إلا أن أنصار الرئيس أقاموا لهم محاكمات صورية على صفحاتهم وداخل مجموعاتهم الفايسبوكية، واتهموهم ب”الخيانة” و”العمالة” دون وجود أدلة مادية واضحة، بل تجاوزوا ذلك للمطالبة بتطهيرهم وسحلهم واغتصابهم واشعال النار في منازلهم، وهي دعوة صريحه لحرب أهلية.
إن الاتجاهات السياسية والايديولوجية المغلقة مثل الشعبوية واليمينية العنصرية تقوم على تصورات ترى من خلالها المجتمع كتلة “نقية” و “متجانسة” و”أصلية” على خلاف الرؤية الديمقراطية التي تقوم على التنوع والتعدد والاختلاط كمصادر اثراء للمجتمع. هذه الأحادية في التصورات والأفكار المغلقة تخلق الكراهية والحقد بين الأفراد الذين يتبنونها، إذ يحتاج الحقد إلى يقين مطلق في أي مسألة لديه أحكام أو مواقف حولها، لأن بقاء أي احتمال، من شأنه أن يكون مزعجاً، وسيحرم الحقد من طاقته تلك، التي يتوجّب توجيهها باتجاه واحد (المهاجرون على سبيل المثال يصبحون السبب في البطالة والجريمة وتهجين المجتمع وتشويه الهوية الوطني…)6.
هنالك العديد من الأحقاد السياسية والايديولوجية التي تفجرت في تونس بعد الثورة بدافع من الأحزاب والحركات الأصولية المتطرفة والميديا الاجتماعية خصوصا (فايسبوك) التي مثلت فضاء عموميا الكترونيا ساهم في سياق الاستقطاب السياسي والانتخابي في تغذية السرديات المتصارعة على السلطة منذ انتخابات سنة 2011 وإلى اليوم، ويمكن تصنيفها في 3 أصناف: الحقد الثوري والحقد على الثورة والحقد على النخب.
بالنسبة للحقد على الثورة فقد جاء بسبب تداول فكرة شائعة حول الأضرار التي تسببت بها الثورة للاقتصاد ومستوى معيشة المواطنين والنمط الاجتماعي الذي تعود عليه التونسيون، أما النوع الثاني فهو الحقد الثوري وهو “الحقد” الذي تكوّن ضد رموز النظام السابق والمنظومة القديمة، أما بالنسبة للمستوى الثالث فهو الحقد على النخب ويمكن تلخيصه بكتلة المشاعر الغاضبة والحانقة التي تحملها مثلا المجموعات الشعبوية للنخب السياسية التي تداولت على الحكم منذ سنة 2011 بمختلف تشكيلتها من اليمين إلى اليسار وفشلت حسب وجهة نظرها في تحقيق أهداف الثورة، وتورطت مع “الدولة العميقة” في إعادة انتاج النظام القديم. وهو ما مهد الطريق لبروز ظاهرة قيس سعيد ليقدم نفسه كبديل لهذه “المنظومة الفاسدة” (ديمقراطية مشهدية، 2021) 7.
دور التضليل الاعلامي
تقوم الديمقراطية كنظام سياسي تقدمي على تعدد الأحزاب والآراء والانتخابات والمداولات في البرلمان والفضاءات العامة وحرية الرأي والتعبير والصحافة والرأي العام وغيرها عناصر الـ”إيكو سيستم”Ecosystem الذي تحيى فيه ولا تكتمل الديمقراطية من دونها.
ومن هذا المنطلق، فلا يمكن الحديث عن ديمقراطية دون وجود صحافة وميديا واتصال ديمقراطي، بمعنى أن هذه المجالات المهنية والعلمية المتعددة في المهام والمحتويات والاتجاهات تشكل “براديغمات” Paradigms بذاتها تتشكل من منظومة مبادئ ومعايير وأخلاقيات تعبر عن جوهرها وأسلوب اشتغالها. بالمقابل يقوم الاستقطاب السياسي أو الانتخابي في الفضاء العمومي بشكل عام، وفي الميديا الاجتماعية بشكل خاص، بالتلاعب بهذه المبادئ وإعطائها محتوى جديد أحادي، فتصبح حرية التعبير مجالا حيويا بين يدي المجموعات المناصرة لتوجه سياسي أو حزبي أو ايديولوجي معين، ولكنها في نفس الوقت وسيلة للتحريض على الخصوم و”الأعداء” الذي لا يشاركوننا نفس الأفكار والقناعات، إذ يتحولون لكائنات غير مرئية لا يمكن محاورتهم أو الاعترافات بهم مثلما أوضحت ذلك إمكه Emcke في فرضيّتها التي فسرت بها كره “البيض” للأجانب المختلفين عنا و”الحقد” عليهم.
وتعمل الشبكات الاجتماعية، حسب الباحث كاس ر. سنستين Cass R. Sunstein بنظام “الشرنقة” المعلوماتية والقدرة الرهيبة على انتشار وتداول المعلومات المزيفة. “مما سينجر عنه تصديق الكثير من الأشياء الخاطئة وافتقاد تعلم الكثير من الأشياء الصحيحة”. وهذه أمر مريع للحقيقة وللديمقراطية. فأولئك الذين لديهم مصالح معينة والباحثين على زعزعة العملية الديمقراطية (…) يمكنهم استغلال الشبكات الاجتماعية لتحقيق أغراضهم”. 8
على سبيل المثال، قامت وكالة فيتش بتاريخ 16 سبتمبر 2024 بتصنيف تونس على مؤشر CCC+ وهو ما يعني مخاطر عالية للتخلف عن سداد التزامات الدين بحسب الوكالة، لكنه أقل خطورة نسبيا من مؤشرCCC- الذي كانت موجودة، لكن هذا لا يعني وجود أمان ائتماني، إلا ان أنصار الرئيس، أشادوا بهذا التصنيف الجديد واعتبروه دليلا على نجاح سياسات الرئيس الحالي ومؤشر على “تعافي الاقتصاد التونسي”.
المقاربة الديمقراطية للأنترانت
على خلاف عدة قطاعات اقتصادية حيوية مثل قطاع الأدوية التي لا يتم الترخيص لها إلا بعد اختبار مدى فعاليتها وسلامتها على المرضى من قبل خبراء وزارة الصحة، أو قطاع الإعلام الذي يعمل حسب قواعد قانونية وأخلاقية وتنظيمية في أغلب دول العالم ، نجد أن الشركات الكبرى التي تسير مواقع التواصل الاجتماعي (فايسبوك، تويتر، يوتيوب، غوغل…) لا تخضع لمنظومة من الأخلاقيات المهنية والقواعد القانونية والتنظيمية المخصوصة لهذا النوع من النشاط الاقتصادي، ولا تهتم إلا بـ “التفضيلات الشخصية”preferences للمستخدمين عندما يتعلق الأمر بنتائج البحث، يحفزها على ذلك حجم الأرباح والمكاسب التجارية بتحرر واضح من قيود الايتيقية والقوانين المحلية، إلا تلك التي تفرضها عليها بعض الدول أو الاتحادات الكبرى مثل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، والتي تحركها في غالب الأحيان دوافع أمنية معلوماتية أكثر من حرصها على تنظيم هذه القطاع وحماية الاختلاف والتشاركية كمبادئ ديمقراطية تحت التهديد بسبب تشكيلاته التقنية.
وبالتالي فإن التنظيم الداخلي لعمل هذه الشركات العملاقة قائم على مصلحة منصاتها الالكترونية (مواقع التواصل الاجتماعي) في توليد الأرباح من خلال “تقييم الاهتمام” ratings interest وتحسين جودة خدامتها في إطار استراتيجيتها التجارية التي تقوم على تشكيلات تقنية تتحكم في منهجية العمل الحسابية والالكترونية (الخواريزميات) التي تولد نظاما من الاستقطاب حول “الحقائق” المتنافرة التي يتبناها مستعملو الإنترنت من المشاركين في النقاشات الافتراضية. فحدة الاستقطاب بين الأطراف المختلفة سياسية وايديولوجيا وانتخابيا، حسب السياق الذي تتنزل فيه النقاشات، يمكن أن يؤدي لتفاقم الخلافات بينها أو القطيعة بين المجموعات المتجادلة.
وقد اقترح ايلي باريزر Eli Pariser ، الناشط الأمريكي في الديمقراطية والأنترنت، وضع منظومة ايتيقية لتعديل نظام عمل محركات البحث والميديا الاجتماعية ومراقبة طريقة بثها للمعلومات، لوضع حد لهذا التوجه نحو تنميط تدفق المعلومات الذي لا يخدم المجتمع الديمقراطي، ويعزل أفراده بعضهم عن بعض بحيث يصبحون غير قادرين على التمييز بين الخطأ والصواب9.
التجربة التونسية في الاستقطاب السياسي والانتخابي على منصات الميديا الاجتماعية غير بعيدة عن السياق العالمي للاستقطاب داخل المجتمعات الديمقراطية، وتخضع لنفس الاستراتيجيات التقنية والخواريزميات التي تحدد شكل الاتصال السياسي ومربعاته الالكترونية. ومن غير المنطقي أن تبقى المنصات الاجتماعية تعمل بنفس استراتيجيات التضليل والتوجيه بالرغم من الانتقادات والاستنكار الذي يوجه إليها من دوائر بحثية واجتماعية عديدة.
[custom-related-posts]