لأننا نحترم عقولكم
سٌحِبت منه شهادته الجامعية وأخرج قسرا من قاعة الامتحان ومنع من الزواج واتهم بالمروق والإضرار بالأمة من قبل مشايخ الدين الزيتونيين بل وصل الأمر إلى حد دعوة غلاتهم بإخراجه من الملة، كل هذا العسف والجور من أجل مناداته بمنع تعدد الزوجات وتعليم البنات وسفور المرأة ومشاركتها للرجل في الشؤون الأسرية والاجتماعية والسياسية مشاركة الند للند..
لقد كلفت هذه الأفكار المستنيرة صاحبها المصلح التونسي الطاهر الحداد العزلة بعيد عن المجتمع والناس خوفا من أن تصيبهم “لوثة” أفكاره الجريئة “بلعنة” شيوخ “الطريقة” الذين كانوا ضد طريقته في معالجة قضايا المجتمع التونسي في الربع الأول من القرن العشرين حينما كانت البلاد التونسية مثقلة بنير البايات والاستعمار..
جاء هذا المفكر الجريء (سابق قومه بقرنين على ما علق طه حسين حينما اطلع على كتابه “امرأتنا في الشريعة والمجتمع”) ذات سنة 1899 بتونس العاصمة حيث نشأ وتلقى تعليمه الزيتوني وكتب مقالاته الشهيرة في صحف “الأمة” و ” مرشد الأمة” و “أفريقيا” والتي كانت بمثابة القنوات الفكرية والدعائية حيث عرفت به على الساحة السياسية آنذاك وقربته للعديد من مجامع الممانعة الفكرية والاجتماعية للاحتلال الفرنسي كما مكنته من ربط علاقات تاريخية مع شخصيات وطنية كان لها تأثير على تطور الفكر الحداثي عند النخبة ساعتها وعلى رأسها الشيخ عبد العزيز الثعالبي حيث كان لقائهما النواة الأولى لتأسيس الحزب الحر الدستوري سنة 1920 مع ثلة من المناضلين التونسيين..
هذا و لم يكن انتماؤه للحزب الحر الدستوري ساعتها إلا محطة له من أجل الدعاية لفكره الإصلاحي التنويري خاصة وأنه كان مكلفا بالإعلام داخل الحزب..
وبرحيل الشيخ الثعالبي مكرها للمشرق العربي سنة 1923 ابتعد الحداد عن النشاط داخل الحزب بعد أن حاد رفاقه “عن المبادئ الأولى للدستور” وانخرط في النضال النقابي في مراحله الجنينية وأسس صحبة رفيق دربه محمد علي الحامي جامعة عموم العملة التونسيين سنة 1924 كهيكل نقابي يخدم مصلحة الشغيلة ويناهض الاستعمار من أجل حقوقها المادية و الاجتماعية إلا أن سلطات الاحتلال أقدمت على حلها في فيفري 1925 بهدف تعطيل نمو الحركة النقابية التونسية وتوسع قاعدتها الاجتماعية..
وقد ألف المصلح التونسي الطاهر الحداد، بعد هذه الحادثة بسنتين، كتابه الشهير «العمال التونسيون وظهور الحركة النقابية» الذي أصل (بالشدة والفتحة على الصاد) من خلاله للعمل النقابي التونسي ونزله في واقعه الاجتماعي وسياقاته التاريخية..
سنة 1930 شهدت صدور كتابه الجريء، بمقاييس عصره وعصرنا أيضا على اعتبار وجود تيارات سلفية في زماننا تكفر ما جاء به مصلحنا العظيم وتكفر من اتبعه من المسلمين، وهو “امرأتنا في الشريعة والمجتمع” والذي ذاع صيته محليا وعربيا ودوليا وكان بمثابة الروح التي استلهمت منها مجلة الأحوال الشخصية قوانينها وتشريعاتها.
إجمالا، يمكن اختزال الفكر الحدادي فيما يلي:
المرأة..
خص الطاهر الحداد المرأة بغالبية فكره الإصلاحي على اعتبار أنها صنوا للرجل في قوامة المجتمع ولها الحق في مشاركته مختلف أوجه الحياة الإنسانية سواء على مستوى البناء أو التسيير بما لهاذين المصطلحين من أبعاد سياسية وحضارية..
وحث على تعليمها على اعتبار أن التعليم “حاجة الإنسان الكبرى في الحياة و يجب أن يكون شائعا بين افراده بقدر ما لهم من المواهب و الاستعداد للانتفاع به ” حسب ما ورد في كتابه “امرأتنا في الشريعة والمجتمع”، كما تطرق في مدونته إلى حجاب المرأة الذي كان شائعا وقتها عند التونسيات وقال فيه “…ما اشبه ما تضع المرأة من النقاب على وجهها منها للفجور بما يوضع من الكمامة على فم الكلب كي لا يعض المارين…” ويضيف في ذات السياق “إن الحجاب قد منع المرأة من التعليم و القدرة على الاقتصاد و إدارة شؤون المعاش اليومي..”، هذا دون أن ننسى معالجته لمسألة تعدد الزوجات بمنطق اجتهادي ويبرز ذلك في قوله في الكتاب ذاته “ما زال أكثرنا يتمسك بان تعدد الزوجات من أول ما تحمي الشريعة بقاءه…فيا للتعاسة و الجهل…”
هذه الرؤية الراديكالية لمسألة تحرير المرأة عند الطاهر الحداد لم تصغ اعتباطا وإنما كنتاج لمجهود تحديثي خلاق وقراءة معاصرة للنص الديني حاول من خلالها تطويع …الأحكام القرآنية لمتطلبات تغيرات العصر وتطور المجتمع وتوثبات نسق التاريخ بناءا على تجدد آلياته الداخلية وما يفترضه من تجدد في آليات الفكر والسلوك الجمعي والعلاقات التي تحكم الأفراد والمجموعات..
كما أن قراءته لموضوع دونية المرأة آنئذ والظلم الذي يلون عيشها اليومي سواء داخل الأسرة أو في المجتمع لا يأتي في قطيعة مع الدين والنص القرآني وإنما نتاجا لاجتهاد عميق حول وضعية المرأة في بدايات نزول الوحي داخل الجزيرة العربية حيث النظام القبلي كان سائدا والعامل الذكوري هو المحدد لكيفية تعامل المجتمع مع المرأة بناءا على عقلية “رجالية” نرجسية تختلط فيها المنظومة القيمية والمعايير المحددة لسلوك الأفراد إلى حد التناقض..
وقد راعى الحداد في معالجته لهذه الحالة “الإنسانية” شروط البيئة الاجتماعية وإستراتيجية النص القرءاني الذي أتى على معيقات تطور المرأة بالتدريج.، واستلهاما لهذه الروح القراءنية وقابليتها للاجتهاد والتطوير صاغ هذا المصلح أفكاره المتقدمة على عصره للرفع من مكانة المرأة على اعتبار أن الحيف الذي عوملت به هو من عمل التاريخ وليس من عمل الدين مدعما ما ذهب إليه باستدلالات شتى لعل أبرزها “التعارض بين الأحكام الشرعية، التي تتحكم بوضع المرأة وتخفضها إلى مكانة دونية، وبين الأحكام التي قررها الله في القرآن ولم يخالفها الرسول”.
إلى جانب الاهتمام النسوي في فكر الحداد، هنالك اتجاهات اجتماعية أخرى خصص لها حيزا هاما من مشروعه الإصلاحي والمتجسدة في العمل النقابي والبرامج التعليمية الزيتونية..
العمل النقابي..
اتجه نشاطه النقابي كما سلف وذكرنا أعلاه صوب جامعة عموم العملة التونسيين التي أسسها رفقة صاحب فكرتها الروحي محمد على الحامي حيث استطاع هذين المناضلين بلورة مشروع نقابي يهتم بالعملة التونسيين ويهدف للدفاع عن حقوقهم قيد الاستغلال من قبل المعمرين ومن تبعهم في ظرف شهدت فيه البلاد القهر الاستعماري ونهب ثرواتها من قبل الاستعمار الفرنسي وذلك على حساب غالبية الفئات الاجتماعية التونسية الرافضة لهيمنة الأجنبي على مقدراتها..
وقد أرخ الطاهر الحداد لحركتهم النقابية، بعد أن تم وئدها من قبل الاستعمار، في كتابه “العمال التونسيون وظهور الحركة النقابية” والذي تحول اليوم إلى مرجع تاريخي للباحثين في الحركة السياسية والاجتماعية التونسية زمن الاستعمار.
إصلاح التعليم..
اتسم التعليم الزيتوني في ثلاثينات القرن الماضي بطرق تدريس تقليدية محافظة على الطابع العربي الإسلامي الذي لم يتغير منذ قرون كثيرة خلت إلا الشيء القليل.
وقد انتقد الحداد في الوثيقة التاريخية التي خصصها لإصلاح التعليم الزيتوني ومناهجه و التي خطها في عزلته، بعد أن نبذه رجال الدين وألبوا عليه المجتمع، انتقد أسلوب التعليم والبرامج المعتمدة حيث أن جامعة الزيتونة ساعتها كانت تقتصر على العلوم الدينية والشرعية و لا تعترف بالعلوم المادية “علوم الطبيعة والكيمياء والتاريخ الطبيعي..” على اعتبار أنها كفر لا يستقيم والدين الإسلامي..! ويقول الحداد في هذا الإطار “هذه المسألة يجب أن يعتبرها التّونسيّون مسألة موت أو حياة إذا أدركنا أنّ هذا المعهد هو اليوم المعهد الوحيد الذي يمكننا أن نحمي به جوهرنا من الاندثار بإحياء لغتنا وآدابنا الصّحيحة مع درس علوم الحياة فيه بلساننا” ويضيف “..صرنا نحب التعليم القومي ونبغض العلوم المادية خوفا على إيماننا، ونعلم أولادنا في مدارس الحكومة، ثم لا نرضى أن يتعلمها أولادنا بجامع الزيتونة خوفا عليهم من الكفر”.
وقد تحد بهذه الروح الوطنية والإصلاحية من أجل تعليم متقدم ومواكب لمتطلبات العصر شيوخ الدين و”علمائه” بل وحتى العديد من الزعماء الوطنيين الذين كانوا يسكتون على طرق التعليم التقليدية مرضاة للشعب على حد ما ذهب إليه الطاهر الحداد في وثيقته التي خصصها لإصلاح التعليم الزيتوني..
إن الروح التربوية والتعليمية المتقدمة التي كانت تتملكه في تلك الفترة زادت من عزلته وغبنه ليموت وحيدا في عز عطائه الفكري والنضالي في السابع من ديسمبر سنة 1936 حيث لم يسر في جنازته حينها إلا عدد قليل جدا من أصدقائه ومن المتبنين لأفكاره.
في كلمة..
تبقى إرادة الإصلاح والتغيير في المشروع الحداثي للطاهر الحداد علامة مضيئة في تاريخ النضال الوطني في حقبة الاستعمار حيث أتت على مجمل القضايا الإشكالية التي كانت تشق المجتمع التونسي وتعيق نموه وازدهاره وتحرره ونخص بالذكر في هذا المقام المرأة والتعليم والعمل النقابي..
كما أن الروح التحديثية التي صبغت أفكاره وأفعاله في سبيل تعصير المجتمع التونسي وتحريره من ربقة الاضطهاد و الاستغلال لازالت تهدي سبيل النخب والأطراف السياسية والاجتماعية الفاعلة في البلاد من أجل مزيد تطوير المنظومة الحقوقية للعملة والمرأة خاصة وأن هذه الأخيرة، سواء أكانت في المصنع أو في الإدارة تعاني من آثار العقلية الذكورية التي ما تزال تهيمن على جانب هام من التسييرية الوطنية و الأسرية..
هذا إضافة إلى أن الحركة النسوية التونسية، في استلهام لموروث الحداد الفكري و المتعلق بالمساواة التامة بين الرجل والمرأة، تطالب على الدوام بحقوق أخرى لم ترتقي فيها إلى مستوى الرجل والمتعلقة بالميراث والحاجة إلى المساواة فيه، إلى جانب مطالبها الأخرى بإلغاء “المهر” والتي ترى فيه تسليعا للمرأة وكأنها بضاعة مطروحة للبيع والشراء..
وأمور أخرى تطالب بالحزم في معالجتها من قبيل التحرش الجنسي والعنف المسلط على المرأة داخل المؤسسات الاجتماعية والأسرية..إلخ.
عموما، اتسمت إرادة الإصلاح عند الحداد بالشمولية بهدف النهوض بالمجتمع وتعديله حتى يقف سدا منيعا أمام الجهل والأمية والتخلف ويناهض الاحتلال مسلحا بالعلم والمعرفة الحديثين بناءا على أنساق ثقافية وأخلاقية وحقوقية وقانونية متطورة وجريئة في الآن ذاته بما يضمن تغيير العقلية الذكورية المضطهدة للمرأة والمستبدة بالقرار الاجتماعي.
هذه الإرادة الإصلاحية الجريئة، تجد اليوم كما وجدت بالأمس، من يقف ضدها من المثقفين التقليديين أصحاب العمائم التاريخية، أولائك الذين يفصلون الحداثة والعلوم الغربية على القياس، ويأخذون المعارف والأدوات العلمية والمواثيق دون تبني روحها الكونية الملهمة و لا فلسفتها التاريخية مما يجعلهم شبيهين بالأسطورة اليونانية التي تتحدث على قاطع طريق يضع ضحاياه على سرير لاختبار ملاءمتهم له فإذا كان الضحية أطول من السرير قص ما زاد عنه وإذا كان أقصر مدده بأدوات السرير حتى يصبح طوله مناسبا للطول المطلوب ولكم أن تتخيلوا ما سيحدث إذا طبقنا هذا المثال على أي مشروع حداثي..!!
بدر السلام الطرابلسي
الحوار المتمدن-العدد: 3129 – 2010 / 9 / 19
[custom-related-posts]
اترك تعليقاً
يجب أنت تكون مسجل الدخول لتضيف تعليقاً.