لأننا نحترم عقولكم
بدر السلام الطرابلسي
تفتح الإنترانت والميديا الاجتماعية في عصر الثورة المعلوماتية والذكاء الاصطناعي إمكانيات جديدة للتلاعب بالمعلومات وتضليل الرأي العام. وهو أمر أصبح شائعا بين مستخدمي الشبكات المعلوماتية الافتراضية ممن يسعون للتأثير في مجريات الأحداث المحلية والدولية. لكن الأخطر من التضليل المعلوماتي المقصود أو غير الواعي الذي يقوم به الأفراد أو الفاعلون الاجتماعيون على الشبكات الاجتماعية هو التضليل المعلوماتي والسياسي الذي تقوم به وسائل الإعلام الأوروبية والأمريكية في سياق الحرب العدوانية على قطاع غزة.
من المهم أن نفهم كيف عزز التقدم التقني مكانة المعلومات في حياتنا اليومية وتحدياتها، بما في ذلك المعلومات المضللة. ربما يكون إلقاء نظرة نقدية على مصادر وطرق الاتصال المضلل في سياق الحروب الدائرة في العالم، أوكرانيا شمالا وغزة شرقا سيجعل من المعايير الإعلامية والصحافية والديمقراطية مادة للتفكير لجميع المرتبطين بهذه البراديغمات على المستوى المهني والأكاديمي.
من بين الأمثلة الواقعية الجلية للتجاوزات المهنية والايتقية الخطيرة لقواعد العمل الصحافي المحترف خلال تغطية حرب غزة انطلاقا، المراسلة الصحافية لقناة السي ان ان الأمريكية التي قامت عند تغطيتها لعملية طوفان الأقصى في بداية الحرب على القطاع بتزييف الوقائع والحديث عن معلومات تتعلق بقطع الرؤوس والاغتصاب قام بها عناصر من حركة حماس ضد المدنيين العزل من الإسرائيليين لم يتم اثباتها لحد الآن، سوى من خلال الرواية الإسرائيلية التي لا تعتبر محايدة ولا يعتد بها وتدخل في سياق “الدعاية السوداء” Black propaganda التي تستخدم عادة لتشويه سمعة العدو عبر تزييف الحقائق وتحريفها أو استقطاعها من سياقاتها الأصلية والباسها سيقات جديدة مضللة.
مرصد “ميديا ديفانس” Media défense الذي يعنى بالدفاع عن حرية الصحافة والصحافيين والمواطنين ضحايا القمع والانتهاكات وضع تصنيفا للمعلومات الزائفة ينقسم لثلاث أقسام:
على الرغم من وجود وسائل وآليات ومنهجيات للتحري في المعلومات المضللة لكن أغلبية وسائل الإعلام التونسية لا تتبنى لا في مواثيقها المهنية ولا في غرف أخبارها وحدات مختصة في التحري عن المعلومات الزائفة، بل إن العديد منها لا يعتمد آليات التحري البدائية عند التدقيق في معلومة أو خبر مثل التثبت من المصادر وإخضاع المعلومة لعدة مقاييس مهنية قبل نشرها. بل هنالك من وسائل الإعلام المحلية من يشارك في نشر الاشاعات وتضليل الرأي العام بنشر أنصاف الحقائق أو أخبار كاذبة خدمة لأجندات خفية تتعارض مع الأجندات التحريرية المستقلة.
إلا أن التحدي الأكبر لجهود التحرّي في التضليل المعلوماتي والاتصال السياسي المتلاعب بالرأي العام هو الذكاء الصناعي الذي أصبح قادرا على صناعة مادة تحريرية وإعلامية منظمة كما هو الحال مع موقع Chat gbt مثلا ، وتقنية التلاعب العميق بالفيديو Deepfake وغيرها من الوسائل التقنية للذكاء الاصطناعي التي تقوم بخطوات سريعة ومخيفة في سياق حروب التضليل والتزييف للكلمة والصورة، وخلق نوع جديد من الفعل النقدي للأفراد بتبريرات وحجج منطقية (صوريا) لكنها غير حقيقة.
وبمرجعيات فيها بناء تبريري قائم على شكل من العظمة الوهمية أو الزائفة لا يمكن أن تحظى بمشروعية العظمة La grandeur القائمة مثلا على مرجعيات الإلهام أو الرأي أو المواطنة (بالمفهوم التعاقدي الروسوي) حسب التصنيفي السوسيولوجي البراغماتي لبولتنسكي وتيفينو (سوسيولوجيان فرنسيان).
يبدو أن الجيل الجديد من الحروب الذي ستخوضه المجتمعات في العقود القادمة سيتمحور حول التضليل بجميع أشكاله الكلاسيكية والتقنية والاصطناعية الجديدة، وهو ما سيضع الفاعلين في ميادين الميديا والاتصال أمام امتحان صعب: إما العقلانية والاشهار Publicity الشفاف للأفعال والحقائق من أجل تحقيق تكافؤ الفرص والمساواة بين مختلف الفاعلين وتقدّيم خدمات إعلامية واتصالية مبرّرة، وإلا فإننا سنغرق في عصر ما بعد الحقيقية وتدمير الذات الاجتماعية عبر التخلي عن الحقائق الموضوعية لصالح الحس المشترك والمعتقدات الشخصية وتزييف الوقائع في سياق تشكيل الرأي العام.
[custom-related-posts]