الإثنين 23 ديسمبر 2024

في تونس..انتخابات رئاسية محبوكة على القياس    

تاريخ النشر : 28 أغسطس 2024

انتخابات رئاسية، قيس سعيد

بدر السلام الطرابلسي

تنبني الديمقراطية التمثيلية على مسوغات تعتبر حجر أساس وجودي يشرعن كيانها ويبرر الحاجة لممارستها، حيث تتشكل من بناء هرمي يمثل الفضاء العام التعددي قاعدته العريضة بناء على فرضية التداول في شؤون الناس والدولة التي توفرها هذه القاعدة.

ولا تستقيم التداولية في المسائل العامة إلا بتوفر شروط بديهية في الأنظمة الديمقراطية تقوم أساسا على تعدد الآراء والمواقف والأحزاب والمنظمات، وكل مؤسسة أو شخصية لها رؤية تقييمية لما سبق النطق به في مسائل منقضية أو استشرافية توقعية للمستقبل السياسي والاقتصادي والاجتماعي القريب أو البعيد للدولة.

كما أن للقوانين والتشريعات بناء لا يعكس فقط خلاصات مكثفة لسرديات سياسية واجتماعية وثقافية نتيجة ديناميكيات ترافق تطور ما يعرف بالـ”مجتمع” و”الشعب” وممثليه أو من ينوبه في الفضاء العام من النخب وغيرهم من صناع السياسات، ولكن وبالأساس فلسفة سياسية تميل إما للانفتاح والحرية أو الانغلاق والتشدد، أي بميل نحو الديمقراطية أو التسلّط.

بناء على المقدمات السابقة، يمكن اخضاع الأحداث والاستحقاقات والسياسات والسياسة والسياسيين لهذه الباروميترات الديمقراطية لقياس درجة تطابقها مع السردية والبراديغمات التي ينتجها مسار تشكل الديمقراطية في أي فضاء سياسي تعددي أو درجة انحرافها عنه.

فالسياق الراهن الذي تعيشه البلاد يشهد زخما سياسيا مرتبطا أساسا باقتراب الاستحقاق الرئاسي في 6 أكتوبر القادم، وهو ما يطرح تساؤلات عن مدى توفر الشروط السياسية والانتخابية الديمقراطية لإنجار الانتخابات الرئاسية 2024 ؟

يمثّل المناخ السياسي الديمقراطي العمود الفقري لأي مسار سياسي أو انتخابي في أي بلد يؤمن بالتعدد والتداول على السلطة، وعندما نتحدث عن مناخ ديمقراطي فإننا نحيل بذلك عن إيكوسيستام Ecosystème  متكامل لا يقتصر مثلا على اجراء الانتخابات في موعدها أو السماح بالتعبير عن الرأي في مسائل الحكم واغلاق المجال أمام باقي الحريات السياسية، أو توفر الحريات ولكن في صيغتها الشكلانية دون أن تكون هنالك مشاركة مواطنية حقيقية في إدارة الشأن العام واتخاذ القرارات وصياغة السياسية الحكومية للدولة.

الايكوسيستام الديمقراطي هو الذي تتوفر فيه عناصر الديمقراطية التعاقدية القائمة على مبدئي الحرية والعقلانية في مناخ تعددي تؤثثه المؤسسات الديموقراطية في الحكم والتشريع، ويضمنه الفضاء العام التداولي الذي يحتضن المشاركة السياسية لجميع المواطنين بشكل مباشر عبر الانتخاب أو عبر ممثليهم عند التداول في شؤون البلاد، فهل هذا المناخ متوفر حاليا في تونس؟ وهل هنالك مؤسسات وتشريعات ديمقراطية تشجع على المشاركة السياسية وإنجاز انتخابات ديمقراطية؟

يصعب الجزم بتوفر هذا المناخ الديمقراطي المنشود، بل يصعب الإقرار حتى بوجود الحد الأدنى الديمقراطي لإنجاز انتخابات ديمقراطية تعددية أو ضمان مشاركة سياسية مواطنية حقيقية، وذلك لتركيبة العقل السياسي الذي يقود البلاد بخلفية فكرية معادية للديمقراطية أو لنقل – بأكثر موضوعية – له فهم شعبوي تسلطي للديمقراطية والسلطة والحكم يختلف عن الجوهر التعاقدي للديمقراطية. إذ يرى في الزعيم السياسي معبرا عن الشعب الموحد في مهمة مقدسة لتطهير البلاد من المناوئين.

بإمكاننا هنا الاستدلال مثلا بأفكار كارل شيمت – التي تأثر بها قيس سعيد – حول الديمقراطية الجماهيرية الكلية التي لا تعتقد في وجود فصل بين الدولة و”المجتمع” أو الدولة و”الشعب”، ولا ضرورة كذلك للتعددية الليبرالية “الوظيفية” التي تهدف لحماية منظومة الحكم البرجوازية. وقدرة الزعيم المتسامي على فهم الواقع ووضع وتغيير التشريعات كما يريد من منطلق “الواجب المقدس” الذي يدعوه للحكم والترشح للانتخابات وتفسير العدالة حسب هذا الفهم للديمقراطية الواحد والموحّد للـ “مجتمع”.

لكننا لن نجد أفضل من المرسوم 54 للاستدلال على النهج التسلطي والقمعي والاستبدادي الذي ينتهجه النظام السياسي الحالي في تونس، خصوصا وأن ضحاياه بالعشرات (60 من الصحافيين والسياسيين والناشطين يحاكمون بسبب هذا القانون).

هذا المرسوم وضع على أساس التصدي للأخبار الكاذبة والاشاعات والتشهير والثلب والجرائم الالكترونية في حين يوجد قانون عدد 116 ينظم حرية التعبير والصحافة وتداول المعلومات في الفضاء العام، لكن الفرق بينهما أن المرسوم عدد 54 يحمل فصولا زجرية معادية للحريات وتصل أحكامه للسجن من 5 إلى 10 سنوات، وبالتالي فهو يقوم على فلسفة قانونية مغلقة تقدم سلب الحريات على التمتع بها، ومحاكمة المواطنين حتى على مجرد تأويلات لمنشوراتهم ومقالاتهم.

فكيف يمكن لقانون زجري قمعي بهذا النزوع القصدي نحو سلب حرية المواطنين لمجرد التعبير عن رأيهم علنا داخل الفضاء العام ألا يلوث الفضاء العام الديمقراطي ويعيق انجاز انتخابات ديمقراطية، من أبرز ركائزها حق المترشحين في تقديم برامجهم ونقد النظام والتعبير عن مواقفهم بكل حرية دون خشية من المحاكمة والاعتقال.

لا يكتفي الرئيس سعيّد بإصدار قانون سالب للحريات (المرسوم 54) بل إنه يحاول في كل مناسبة يلتقي فيها بمسؤولين إعلاميين أو زيارة مؤسسة صحافية أن يحدد الخط التحريري للمؤسسة ويوجهها حسب رؤيته وتصوره للإعلام العمومي الذي يميز فيه بين الإعلام المستقل والاتصال الموجه، ويرى أنه يجب أن يكون في خدمه الحكومة والرئاسة وينفذ توجيهاتها، ويشارك في “حرب التحرير الوطني” وهو شعار رئيسي في حملته للانتخابات الرئاسية.

وقد سبق أن قال في لقاء مع الرئيسة المديرة العامة للإذاعة والتلفزة التونسية أن “العديد من البرامج التي تبثها القناة الوطنية -فضلا عن نشرات الأخبار وترتيب الأنباء- “ليست بريئة”. وبأنه “لا يمكن أن يستمر ما يبث من المؤسسة الوطنية، ويجب أن تكون في خدمة التونسيين لا في خدمة هذه اللوبيات التي تتخفى وراء الستار”، من دون أن يحدد هذه “اللوبيات.

موقفه من للإعلام لا ينفصل عن تصوره “الشعبوي” للأجسام الوسيطة عموما (أحزاب، منظمات، مؤسسات تشريعية، ميديا…) التي يتهمها بأنها والنخبة عموما معادين للـ”شعب” وتقف حاجزا أمام الاتصال المباشر بين الرئيس (الزعيم السياسي) و”الـشعب” وعائقا أمام الديمقراطية المباشرة التي يريد التأسيس لها.

وبالعودة للمرسوم 54 المعادي للحريات، نجد أنه ليس الوحيد الذي يعيق انجاز انتخابات نزيهة تتوفر فيها كل الشروط الديمقراطية، فالاشتراطات التي وضعتها هيئة الانتخابات لخوض الرئاسية صعبت على المترشحين والذين ينوون الترشح للانتخابات الرئاسية تقديم ترشحاتهم لدرجة التعجيز بالنسبة لبعض القيادات المعارضة الموقوفة منذ فيفري 2023 بتهم تتعلق بالتآمر على أمن الدولة لم يتم اثباتها حسب محاميهم، مما اعتبرها البعض أكبر مظلمة تعرضت لها المعارضة في تونس منذ الحكمين البورقيبي والنوفمبري.

مظاهر التعجيز تكمن مثلا في رفض هيئة الانتخابات تقديم وثيقة جمع التزكيات لمنوبي عصام الشابي (الجمهوري)  وغازي الشواشي (التيار الديمقراطي) وعبير موسي (الدستوري) بعد أن أعلنوا عن رغبتهم في الترشح للانتخابات الرئاسية من داخل السجن.

أما من تقدموا للترشح من خارج السجن، يتعرضون بدورهم للعوائق والصعوبات في تقديم  ترشحاتهم،  ومن أبرز هذه العوائق تقديم البطاقة الأمنية عدد3 ضمن ملف الترشح والتي يتطلب الحصول عليها عادة شهر إلى 3 أشهر، وقد رفضت وزارة الداخلية مدّ أبرز منافسي سعيد بها من بينهم منذر الزنايدي، نصر الدين السهيلي، كريم الغربي، كمال العكروت، عماد الدايمي، نزار الشعري،  بحجة وجود تتبعات قضائية ضدهم.

كان من المنتظر من السلطة السياسية ووزارة الداخلية تسهيل الحصول عليها للمترشحين للرئاسية إذا كان هنالك مناخ ديمقراطي حقيقي في البلاد يشجع على المنافسة السياسية وتعدد الآراء. وهو شرط مستحدث لم يكن موجودا في شروط الترشح للانتخابات الرئاسية أو التشريعية السابقة لتاريخ “الانقلاب الدستوري” الذي قام به قيس سعيد في 25 جويلية .2021

من الشروط الأخرى التي أضافتها هيئة الانتخابات ولم تكن موجودة قبل هذا التاريخ تزكية 10 آلاف ناخب مرسم بسجل الناخبين موزعين على 10 دوائر انتخابية تشريعية على الأقل ولا يقل عددهم عن 500 ناخب بكل دائرة منها. وهو شرط يصعب – حسب متابعين للشأن العام – مهمة المترشحين، حتى وإن كان يمثل اختيارا من بين اختيارات أخرى عند جمع التزكيات.

لا يكفي تصعيب مهمة الترشح للانتخابات الرئاسية بشروط تعجيزية، بل يضاف إليها التدهور الشديد في وضعية حقوق الانسان والاعتقالات التعسفية والملاحقات القضائية للمعارضين والصحافيين، حيث اعتبرت منظمة العفو الدولية في بيان لها أن “القمع الحكومي يغذي الخوف، بدلاً من المناقشات الجدية للمشهد السياسي التعددي”.

ما سبق لا يؤشر على انجاز انتخابات رئاسية ديمقراطية وتعددية وإنما مسار انتخابي إقصائي سواء من خلال التشريعات السالبة للحريات ( مرسوم 54) أو الشروط التعجيزية و الايقافات والاعتقالات لأي ناشط أو صحافي أو معارض يتجرأ على انتقاد السياسات الحكومية والرئاسية، أو يشكك في نزاهة هذا المسار ومدى استجابته لروح الديمقراطية وروح التشريعات المبنية عليها.

Partagez Maintenant !
TwitterGoogle+Linkedin
[custom-related-posts]

التعليقات مغلقة.